هدى سلطان: سطوة الجاذبية المستبدة
بحسب فلسفة كانط، فإن المرأة يجب أن تتنازل عن ذكائها وتحجب عقلها إذا شاءت إغراء الرجل. يضع هذا المفهوم حاجزاً صارماً بين الجمال والذكاء، على اعتبار أن الجمال امتياز والذكاء مقتصد على البحث الجاد والمعارف الجافة.
سنرى في السينما نموذج الجمال الكانطي من خلال التجارب الهوليوودية القديمة وصورتها المرادفة في السينما العربية، وذلك بالإيحاء أن المرأة الذكية ذات التفكير المجرد النافع قد تثير الإعجاب البارد، لكنها ستضعف من الجاذبية الشديدة التي تمارسها على الجنس الآخر. فعليها أن تتحول إلى قناصة ماهرة، أو شبكة عنكبوت تجلب إلى نسيجها الذكور وتوقعهم في وكر الملذات.
الإغراء في سينما الأبيض والأسود اتخذ قوالب متشابهة ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالدهاء. وبين الدهاء الفطري والذكاء المعرفي مسافة وعرة، كما هي المسافة بين شخوص فاتن حمامة وماجدة ولبنى عبد العزيز من جهة، وبين شخوص هدى سلطان من جهة أخرى. فالفئة الأولى تركن إلى قدرة التفكير والوعي والتحرر الذهني، فيما تعتمد الثانية على قدرة الإحساس والعاطفة والرغبة.
يشيد المخرج حسن الإمام بهدى حين وقفت أمامه في تجربتها السينمائية الثانية: «هذه المرأة الممغنطة، قد تخشى شقيقها الموسيقار محمد فوزي لكنها لا تخشى الكاميرا أبداً! لقد جاءت إليّ مثل مقطوعة موسيقية جاهزة كالناي... كالطقطوقة... كالموال».
ملصق فيلم «حكم القوي» (حسن الإمام، 1951)، من تصميم زكي مرسي.
لكن لماذا نذكر هنا هدى سلطان ولا نستحضر هند رستم التي رافقها لقب «نجمة الإغراء» أو برلنتي عبد الحميد رغم قصر تجربتها؟ تنقلت هند رستم في أدوارها بين الطبقة الأرستقراطية والمتوسطة والشعبية، فيما قولبت هدى سلطان في أدوار الطبقة الشعبية أو الفقيرة. من ناحية أخرى، كانت هند رستم مثالاً للجاذبية والجمال والدلع المتناغم في الإغواء، واستخدمت سلطة الإغواء بنرجسية لا يستثنى منها إغراء العقل، بيد أن الجمال لدى هدى سلطان لا يكتسب أي أهمية أمام قوة إغرائها. فهي برعت في صناعة أدوات الإغراء المختلفة عن بقية زميلاتها داخل موضوعات متشابهة المحاور لكنها أشد جرأة في الطرح، فضربت بعصاها السحرية العلامة الفارقة.
مرحلة الغواية
بدأت المرحلة بفيلم «سواق نص الليل» (نيازي مصطفى، 1958)، الذي أدت خلاله دور المعلمة بجلابية فضفاضة قاتمة وطرحة سوداء، شخصية قاسية وصلبة. لم يكن هذا الدور الذي كرس نجوميتها، لكنه شكّل المنعطف في مسارها الفني وصدرت من خلاله صورة البطلة «المراودة عن نفسها»، في حين أن شكل الشخصية الخارجي المحافظ لا يمنحك المساحة التصورية لفيض الوجود الجسدي المتفتح في عالم الرغبات.
إن المراودة عن النفس واستمالة الحبيب في السينما يتم توظيفها بآليات مختلفة وتقنيات تمثيلية منوعة، لا ينفك الإغراء الموظف عنها كعنصر أساسي. يحمل مصطلح «إغراء موظف» دلالات حسية مغلفة في السينما شأنها شأن العديد من المصطلحات العربية. فهناك إغراء تؤديه ممثلات الكومبارس في مشاهد البار دون أن تنبس الممثلة ببنت شفه، فتبذل مجهوداً مضاعفاً في لغة العيون والجسد، ثم يتم هندسة إيقاع الموسيقى التصويرية فيها للكشف عن مواطن جمالها الفاتر، وأعني الفاتر هنا ليس بمقاييس الشكل بل الروح. إنها عملية مقصودة لتأدية المهمة المقتضبة نحو المتعة المجردة.
من جانب آخر، كان إغراء هدى سلطان دائماً في صندوق بنت البلد ولم يخرج عنه إلا قليلاً. وفي هذا الشأن درجة عالية من تعقيد المعنى، فالتقاليد المحافظة للحارة والقرية والريف والمساكن الشعبية لا تتواءم مع المرأة التي خلعت عباءة الأعراف واخترقت المحرمات. هذه المجتمعات نفسها تقع في هيكل التخاذل والرياء مع المرأة.
هدى سلطان في مشهد من فيلم «نساء محرمات» (محمود ذو الفقار، 1959).
ستكوّن هذه المفرزات بطبيعة الحال مواجهات محتدمة، تظهر خلالها شخوص هدى سلطان كضبابة كثيفة في وسط سماء صافية، حتى تتحول إلى أشباح من غيوم سوداء تمطر رعداً وبرقاً وريحاً عاتية.
هناك تفصيل في شخصية بنت البلد يجعل من الصعوبة عليها أن تسير على خيط رفيع، بينما يحتم عليها القفز فوق الحواجز. صوتها قوي وآمر، فيه ملمح من العنف والرعونة أحياناً أمام الوصال مع الحبيب. كل ذلك يتطلب موهبة وحدساً عالياً يجسد المكتوب بتلقائية شديدة. من الأمثلة على هذه الشخصية نزهة في «رصيف نمرة 5» (1956)، شربات في «نهاية الطريق» (1960)، بهية في «سوق السلاح» (1960)، وتوحيدة في «3 نساء» (1968).
التكوين الأنثوي
مقاييس الجسد لدى نجمات أوائل الخمسينيات متقاربة، وعندما تزيد بسنتمتر عن نموذج نجمات هوليوود أو بطلات الشاشة المصرية سوف تصنف هدى سلطان خارج الحقل. فقد اعتاد الجمهور مشاهدة فتيات السينما رهيفات، هشات، نحيلات، مسالمات.
جاءت هدى سلطان بمقاييس شديدة المحلية، كجبل رخامي: قامة فارعة، منكبين عريضين، وجسد ممتلئ لكنه بعيد عن السمنة. كانت البنية الجسدية لديها موائمة لشركائها الأبطال، وفي مقدمتهم فريد شوقي، رشدي أباظة، عماد حمدي ويحيى شاهين، بينما تبدو غير متكافئة مع البقية مثل شكري سرحان وصلاح ذو الفقار. أهمية امتلاء الجسد في تكوين مشاهد المراودة عن النفس يوازي الاطمئنان نحو شعورها بالتملك.
ملصق فيلم «امرأة في الطريق» (عز الدين ذو الفقار، 1958)، من تصميم فاسيليو.
تطرز هدى سلطان هذه الحالة الأدائية بالغناء وهي تتحلق نحو الحبيب بملامح تنبض عضلاتها جمراً، ثم تتلوى تحت وقع الكلمة مستعينة بلغة الجسد وقوة بنيانه، فيسكب البطل نفسه في قبضتها بعد مقاومات عديدة.
لم تتميز هدى سلطان بفرادة جسدها فحسب. فقد كانت تتميز بتسريحة شعر مختلفة... تسريحة غير مهذبة! لم يكن شعرها مموجاً أو أملساً، بل كان عبثياً. وليس من قبيل المصادفة أن الشعر الطليق غير المُسرّح في أفلامها هو إعلان ثورة من اللامبالاة والجموح الشهواني.
ملصق فيلم «قاطع طريق» (حسن الصيفي، 1959)، من تصميم جسور.
من معالم الإغراء لديها أيضاً أنها حين تضحك تصدر ضحكة مبحوحة، وليست تلك الصارخة الوحشية طمعاً في إثبات الوجود.
أما في عالم الأزياء، نراها في كثير من اللقطات مرتدية ثوباً ساتانياً يلف خصرها العريض، وتتدلى خيوطه من كتفيها العريضتين مصرحاً منذ اللحظة الأولى عن الرغبة القاتلة. في مشهد من فيلم «حب ودلع» تطل هدى سلطان من الشرفة مرتدية ثوباً حريرياً يكشف عن مواطن الأنثى، وهي تدعو الموظف الستيني (حسين رياض) إلى شرب القهوة بصوت يترنح بين اليقظة والهذيان: «البن بتاعنا بن بيتي، بن محوج، حبهان... ومستكة... وقرنفل». ثم ترمي قبلة في الهواء بكل دلال وخفة. يسير حسين رياض هائماً على وجهه ويصل إلى مقر عمله ثم يوبخ العامل: «إيه البن بتاعك دا، مفيهوش حبهان ولا مستكة ولا قرنفل!» لقد غرق العجوز في النداء الأنثوي. يختفي التوجس سريعاً وتحل الثقة، ثم تتحول تلك المرأة إلى جحيمه الأبدي.
الإغراء في فخ المحرمات
بينما كان لنجمات السينما حسابات أخرى، حيث تخشى كل منهن أن تتخلى عن دور الفتاة الوديعة كي لا تظهر على الشاشة بالصورة المنبوذة، لم تتردد هدى سلطان من تكرار النموذج رغم حساسيته الشديدة ورغم تعزيز النهاية الطهرانية في أغلب تلك الإنتاجات، فهي البطلة «الميتة» روحاً وجسداً.
لا شك أنها قاعدة محفوفة بالمخاطر بأن تعشق البطلة شقيق زوجها، أن تميل إلى صديقه، أن تصبح خليلة لخطيب ابنتها! وكل ذلك تم إنتاجه بشكل مكثف استثماراً لنجاحات سابقة خلال ثلاث سنوات فقط. أبرز أفلامها التي تناولت تلك العلاقات الشائكة هي «امرأة في الطريق» (عز الدين ذو الفقار، 1958)، «نساء محرمات» (محمود ذو الفقار، 1959)، «حب ودلع» (محمود إسماعيل، 1959)، «زوجة من الشارع» (حسن الإمام، 1960)، و«العاشقة» (السيد زيادة، 1960).
ملصق فيلم «صائدة الرجال» (حسن الإمام، 1960)، من تصميم جسور.
وفي أفلام أخرى مارست هدى سلطان الغواية دون إهمال المبررات التي تخفيها وراء قناع الحياة العبثية والتي تمثل شريحة من هوامش المجتمع، كالعوالم، الراقصات، ومغنيات الأفراح والموالد. فطرحت «مسافة نفسية» بين ما تضمره وما تظهره للعلن كعامل في صعود الأحداث، لنراها كيف تجرجر حزنها الدفين وتبحث عن مرفأ حنان. من الأمثلة على ذلك فيلم «كهرمان» (السيد بدير، 1958)، «صائدة الرجال» (حسن الإمام، 1960)، و «سر امرأة» (عاطف سالم، 1960).
الطبيعة تأخذ مجراها
انتهت تلك المرحلة الغنية بالنجاح الجماهيري بعد توجه هدى سلطان إلى المسرح. وتزامن ذلك مع كثافة حضور جيل جديد من النجمات أمثال سعاد حسني، نادية لطفي ولاحقاً نجمات السبعينيات مثل ميرفت أمين، سهير رمزي ونجلاء فتحي.
وباستثناء ظهورها في أفلام متفرقة جسدت خلالها دور العالمة بجرأة تتناسب مع مرحلتها العمرية مثل فيلم «دلال المصرية» (1970)، «الاختيار» (1972)، و«أسياد وعبيد» (1978)، تحولت هدى سلطان مع تراكم الزمن وبإدراك تام من المرأة التفاحة المشتهاة إلى المرأة الأم: أم في السينما وأم على الشاشة الصغيرة.
هدى سلطان في مشهد من فيلم «الاختيار» (1972).
فكانت متصالحة تماماً مع فكرة الطبيعة التي تأخذ مجراها العادل، ولم تنعزل مثل نادية لطفي أو تعتزل تماماً كردة فعل اعتراضية على ظروف المناخ الإنتاجي كما فعلت هند رستم. بل استطاعت أن تفرض بأدوار مساندة طغيان حضورها الآسر، سواء في السينما كما في «عودة الابن الضال» (يوسف شاهين، 1976)، أو في التلفزيون كما في «زينب والعرش» (1980).
سطوة حتى النهاية
في غمرة عطائها أثناء ممارستها لأدوار الأمومة سُئلت خلال لقاء تلفزيوني في مطلع الثمانينيات إن كان هناك زي ما تتفاءل به؟ شردت ثوان معدودة وقالت: «الأمر لا يعد تفاؤلاً، لكني معجبة جداً بزي المحجبات، أرى فيه الكثير من الزهو والجمال». كان ذلك الجواب الذي تكوّن كبذرة في لحظة صفاء مع النفس ثم نما على مدى الأيام والسنوات، حتى اشتد كامتداد الغصن.
في منتصف التسعينيات وبعد تألقها في دور أم حسن في مسلسل «أرابيسك»، أعلنت هدى ارتداء الحجاب مع استكمال مشوار التمثيل وعدم الاعتزال. أصبحت هدى سلطان المرأة الأم المحجبة، وحفرت اسمها بالخلود حين جسدت شخصية فاطمة تعلبة في «الوتد» (1996).
ويا للمفارقة! لم يصعد حجابها إلى سُلم التدرج، ولم تترك لخصلات شعرها أن تنفلت من الدبابيس المُحكمة. كان حجابها متسقاً مع سماتها الشخصية، وقوراً صارماً حاسماً، موحد اللون، لا تزينه الزركشات ولا تطعمه أدوات الزينة. وفي هذا الشأن نستشف مكمن القوة بداخلها، كيف لها أن تقود الأشياء إلى منتهاها.
وحتى في مرحلتها الإيمانية الأخيرة، تفخر هدى سلطان كونها حققت إرثاً غنياً في الغناء والسينما. تسرد عن ماضيها الفني الثري وكأنها تستند على جدار مصقول من تراكم المعرفة والاحتراف. وفرة من الخبرة المهنية والحياتية تجعلنا ندرك مدى ذكائها في نحت مسيرتها السينمائية بفرادة وإتقان.
استمرار صورة الأمومة على الشاشة قادها بطبيعة الحال إلى أن تكون صوت الضمير الحاضر للشخصيات الرئيسية، أمومة لا تخضع لهيمنة ذكورية ولا تفارقها الأنفة واعتداد النفس.
هكذا بانسياب وزهد اختياري، انتقلت في سنوات عطائها إلى الضفة الأخرى في الفن، فتحررت من عوامل الشكل واستراحت في أعماق الروح.
صور الملصقات المستخدمة في هذا المقال هي من مجموعة ملصقات هدى سلطان لدى ملصقات أضواء المدينة، والتي تحتوي على العديد الملصقات الرائعة والنادرة للفنانة.
نور هشام السيف (noorhishamalsaif.com) فنانة تشكيلية سعودية حاصلة على بكالوريوس تربية فنية من جامعة الملك سعود بالرياض. شاركت نور في العديد من المعارض الجماعية والفردية، وتعكس أعمالها طبيعة العلاقات الإنسانية والاجتماعية المعقدة. تعبّر نور عن ذلك من خلال تأثرها بالسينما، حيث تنفذ منجزاتها الفنية باعتبارها كادرات مشاهد سينمائية عن طريق التعبير السردي القصصي. وتتبنى نور أسلوب الصور المجازية الجريئة التي تحولها إلى عالم فانتازي يستحضر المفاهيم والتصورات الذاتية.
اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك آخر المقالات وإصدارات الملصقات والعروض الخاصة.